التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فنونٌ بلا أرجل.. في وسط المدينة


في قلب القاهرة، وبالتحديد في منطقة وسط البلد، حيث المعمار الأخاذ والشوارع الواسعة والميادين العريقة، وحيث التجمعات الشبابية والملتقيات الثقافية والمعارض الفنية، انطلقت النسخة السابعة من مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "D-CAF"، وهو المهرجان الدولي للفنون المعاصرة الوحيد في مصر، وتقام فعالياته على مدار ثلاثة أسابيع في مارس من كل عام، في عدة منافذ بوسط البلد بالقاهرة.
ويتميز مهرجان دي كاف عن غيره من المهرجانات الفنية بالتزامه بسياسة دمج جميع فئات المجتمع في برامجه، وخصوصًا متحدي الإعاقة، وذلك من خلال السعي إلى إشراكهم كجمهور وكفنانين في مختلف أنشطة المهرجان، حتى أنه وفي نسخته الرابعة كانت «الفنون وتحدي الإعاقة» هي الفكرة الرئيسية التي غلبت على جميع برامجه.
وفي نسخته -السابعة- هذا العام أيضًا لم يكن ليتخلى المهرجان عن ذلك الالتزام، وظهر ذلك جليًا من خلال مبادرة «الفن للجميع» التي أطلقها قبل بدء الفعاليات بأسابيع، حيث تهدف هذه المبادرة إلى توفير ١٠٠٠ تذكرة مجانية لعروض المهرجان؛ تقدم لمتحدي الإعاقة وغيرهم من الفئات المهمشة في المجتمع، "للفن قدرته الخاصة على تغيير حياة الناس الأفضل، لذلك يجب أن يكون متاحًا للجميع، وعلى الأخص لتلك الفئات الأقل حظًا"، يقول إيهاب الشاذلي المسؤول الإعلامي للمهرجان. وقد قامت هذه المبادرة بالتعاون بين إدارة المهرجان وبين منظمات خيرية متنوعة، كما شارك بها عدد من نجوم السينيما والتليفزيون، كان منهم سيد رجب وأحمد مالك ويسرا اللوزي.
ولم تكن تلك المبادرة لم تكن جل ما قدمه المهرجان إلى متحدي الإعاقة، فقد استطاع المهرجان أن يحقق مفهوم دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في كثير من عروضه وبرامجه:

 برنامج «روح المدينة» 

من عرض «مربع البداية» - تصوير: مصطفى عبد العاطي
في برنامج «روح المدينة» -والذي يحوي عروضًا للأداء الحركي والرقص المعاصر تقام في بعض شوارع القاهرة-، نُظِّم عرضان في ممر بهلر بشارع قصر النيل، يعتمدان في الأساس على متحدي الإعاقة، أولهما كان عرضًا بعنوان: «مربع البداية»، وهو عرض مشترك بين أيرلندا ومصر، العرض من تصميم تارا براندل، وهي مصممة رقصات أيرلندية عُرضت أعمالها في كثير من الدول حول العالم ونالت عددًا من الجوائز، وتقدم العرض ثلاث فتيات مصريات إحداهن من متحديات الإعاقة، وهن ماريهان سامي، ونيرمين حبيب، ومنة الله عزمي، التي قدمت رقصتها الرائعة على كرسيّها المدولب، كونها مصابة بتقزم وتشوه في العظام يمنعها من الحركة، وتقول المصممة براندل عن العرض أن مربع البداية هو الوصول للنقطة الأولى، التي نتشابه عندها جميعًا، حيث نجد أن الحياة والفن شيء واحد.

من عرض «إهداء إلى..» - تصوير: مصطفى عبد العاطي

أما العرض الثاني الذي قُدِّم من خلال نفس البرنامج فقد كان عرضًا بعنوان: «إهداء إلى..»، العرض القادم من المملكة المتحدة هو عرض "مُهدى للنساء والحب والحياة والصداقة."، كما أخبرت عنه مصممته ومخرجته كارولين بوديتش، -وهي فنانة أسكتلندية متخصصة في الفنون الأدائية والرقص-، وقدمتاه راقصتان إنجليزيتان إحداهن من متحديات الإعاقة، وهن ويلي أوبراين وفيكتوريا فوكس، التي بُترت ساقها اليمنى بالكامل بسبب حادث، لكن ذلك لم يوقف رغبتها في التعبير عن الحب والصداقة من خلال ما تقدمه من فنون.

برنامج الأفلام والأدب

ومن روح المدينة إلى برنامج الأفلام والأدب، حيث عُرض الفيلم الأيرلندي: «سانكتوراي -الملاذ الآمن-»، في مسرح الفلكي بوسط البلد، وهو فيلم تراجيكوميدي يحكي عن ‹لاري› و‹صوفيا› المغرَمين، واللذَين يحاولان البقاء سويًا، تمامًا كأي اثنين مغرمين، إلا أنهما لم يكونا حقًا كغيرهما، فكلاهما مصاب بمتلازمة داون. الفيلم للمخرج الأيرلندي لين كولين، والذي يقول عنه أنه "تمكن من المواءمة بين متعة السينما ودورها الإصلاحي وتأثيرها المجتمعي"، حيث ألقى الضوء على مواد التمييز ضد متحدي الإعاقة الذهنية في القانون الأيرلندي، ما أدى إلى تعديل القوانين بعد عرض الفيلم بأسابيع، وهو ما يعتبره المخرج نجاحًا مبهرًا.
وبالإضافة إلى النجاح المجتمعي الذي حققه الفيلم، فإنه تفرد أيضًا من الناحية الفنية، حيث كان ما يقارب نصف طاقم الفيلم من المصابين أيضًا بمتلازمة داون، مما يأخذك في رحلة إلى عالم من المشاعر النقية، حيث الكثير من الضحك والكثير من البكاء.

البرنامج الحواري

هذا وقد اختتم المهرجان فعالياته الخاصة بمتحدي الإعاقة من خلال البرنامج الحواري، حيث نُظمت ندوتين بالحرم اليوناني، إحداهما بعنوان: «من هم ذوي الاحتياجات الخاصة؟»، استضافت متحدثين من المسرح الفلسطيني: مارينا برهم، ومن المسرح الأرمني: تسولاك جلاستيان، ومن لبنان الناقد الفني: روجيه أوتا، ناقشوا خلالها كيفية التأهيل النفسي والمجتمعي للنماذج الفنية من متحدي الإعاقة لتأخذ مكانًا على الساحة الفنية المحلية.
أما الندوة الأخرى فكانت بعنوان: «الفنون ومتحدي الإعاقة»، وقد نُظمت بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني ومنظمة اليونسكو، حيث تحدث من خلالها كل من: كاثي كوتسين -مندوب المركز الثقافي البريطاني، مصر-، كارول ماكفادن -مندوب المركز الثقافي البريطاني، المملكة المتحدة-، بول هيكتور -مندوب منظمة اليونسكو-، منة الله عزمي: -رقص معاصر-، وقد دار النقاش حول المفاهيم الأساسية الخاصة بالفنانين مختلفي القدرات من متحدي الإعاقة، وهل يوجد مشهد فني مرتبط بمتحدي الإعاقة في مصر؟ وكيف يمكن التأثير على المؤسسات الفنية الكبرى لجعل مفهوم الدمج جزءًا من تكوينها بدلًا من مجرد الدعم عن بعد أو استضافة فعالية ما؟.
وهكذا يمكننا القول أن أكثر ما حاول المهرجان ترسيخه من خلال برامجه لهي حقيقة أن مفاهيم الدمج والمشاركة المجتمعية هي ما يمكن أن نعول عليه حقًا لخلق مجتمعٍ متكاملٍ  تثريه اختلافاته ولا تعيبه، فقط إذا توفرت الإرادة لذلك. إنها حقًا تجربة فريدة، نأمل أن نراها تتكرر كثيرًا، بالتأكيد ليس فقط على الصعيد الفني.

ملحوظة: الصور الواردة من تصوير مصور المهرجان «مصطفى عبد العاطي».


تقرير - مشروع تخرج: مجلة «إرادة» - لم يُنشر 
  ٢٣ أبريل ٢٠١٨

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التكنولوجيا هي مفتاح دمج المكفوفين في المجتمع - حوار مع محمد أبو طالب

أمام البوابة الرئيسية لجامعة سوهاج، التقينا الناشط الحقوقي الشاب، ومدرب الكمبيوتر بمركز نور البصيرة للمكفوفين: محمد أبو طالب، وبخطوات واثقة مثيرة للذهول، قادنا إلى مكتبه الخاص في مبنى المركز الملحق بالجامعة، مستخدمًا عصاه البيضاء الصغيرة، والتي بدت وكأنها عديمة الفائدة أمام بصيرته وقدرته الفائقة على التنبؤ بما أمامه، وهكذا أكملنا طريقنا إلى المكتب حيث ألقى السلام على بعض المارة والجلوس الذين استطاع أن يميزهم بسهولة، وبعد أن رحب بنا ترحيبًا كريمًا، بدأنا معه هذا الحوار الثري، حول التكنولوجيا والإعاقة، الموسيقى والأمل، المستقبل والحياة العملية، فإلى نص الحوار.. بدايةً، كيف تحب أن تعرف القراء بنفسك؟ اسمي محمد صابر علي أبو طالب، من مواليد محافظة سوهاج، عام ١٩٨٨، ولدت كفيفًا، في أسرة تربوية حيث كان كلا والداي معلمَّين، أنهيت تعليمي الأساسي والثانوي في مدارس النور للمكفوفين، وبالرغم من تفوقي في الثانوية العامة، بالإضافة إلى رغبتي الشديدة في دراسة الحقوق، لم أتمكن من الالتحاق بالكلية بسبب اللاوئح التي تمنع قبول المكفوفين، اتجهت بعدها إلى كلية الآداب وأنهيت دراستي بقسم الدراسات الإس