التخطي إلى المحتوى الرئيسي

طريق الصنعة.. على أنغام أم كلثوم


عندما نتحدث عن الحرف والمشروعات الصغيرة فأول ما نستدعيه لأذهاننا هي الجدوى الاقتصادية، ونظراً للحالة الاقتصادية العامة في البلاد وتحديداً في الفترة الحالية؛ فقد تبدو الصورة للوهلة الأولى قاتمةً بعض الشيء، بيد أنه إذا ألقينا نظرة متفحصة على الأحوال المالية لمعظم أصحاب الحرف فقد نجد الصورة مختلفة قليلًا  عن المتوقع، بل إن البعض قد نجح بالفعل في تحويل هذه الحرف إلي مشروعات كبيرة بل وضخمة في بعض الأحيان. وبوجه عام فإن كل ما تحتاجه عند اتخاذك لقرار الانخراط في ممارسة هذه الحرفة أو تلك، هو الفهم الواسع لمتطلبات السوق الحالية والمستقبلية، وأيضاً الإلمام بأصول وقواعد هذه الحرفة ومدى قابليتك للتمكن منها وإجادتها بحد أدنى يسمح لك بالظهور والاستمرار في سوق هذه الحرفة، بالإضافة إلى القليل من الذكاء التجاري بطبيعة الحال.
الحاج جمال موسى -أحد أشهر حرفيي الجبس في منطقة الهرم- استهل حديثه كالعادة بالتحدث عن أحوال البلد في ظلّ الظروف الاقتصادية الحالية قائلاً: "الحمدلله احنا لاقيين ناكل، بس في غيرنا مش لاقي"، ثم انخرط في أحاديث فرعية متفرقة، عن التاريخ والموسيقى والأدب، حدثنا عن كامل الشناوي وطه حسين، مصطفى وعلي أمين، زكي طليمات وروز اليوسف، بالإضافة إلي لمحات من تاريخ أوربّا والعالم، أحاديثٌ  شيّقة تعكس خلفية ثقافية واسعة، تدهشك عندما تخرج من بين شفتين متشققتين من حرارة شمس أيام العمل، ويدين ملطختين بالبياض من آثار المهنة الشاقة. على كلٍ، فقد انتقلنا سريعا إلى صلب الموضوع..
حكى لنا الحاج جمال عن بدايات انخراطه في ممارسة الحرفة، موضحاً أن هذه الحرفة بالذات لا يمكن أن تندثر في المستقبل القريب، وأن سوقها مستمر ومزدهر، في ظل التوسع العمراني الكثيف والمطرّد في المدن الجديدة والقديمة على حد سواء، وأن هذا التوسع يتطلب بطبيعة الحال أعمال تشطيب عالية الجودة، بما فيها أشغال الجبس.
حكى لنا كيف بدأ كمساعد "صنايعي" حديث السن، مشدداً على ضرورة "المرمطة" في المجال حتى تتمكن من إتقان كافة تفاصيل العمل -تشرب الصنعة-، ومن ثم تترقى إلى رتبة "الصنايعي" عندما تتمكن من إدارة وتنفيذ أحد الأعمال الكبيرة منفرداً، وأضاف: البعض قد يتمكن من إجادة الصنعة في شهرين أو ثلاث إذا امتلك الإرادة لذلك، والبعض الآخر قد يطول الأمر به إلى عام أو عدة أعوام، والبعض لا يتمكن من الصنعة أبداً، وكل ذلك يعتمد على الصبر والقابلية للتعلم. وهكذا إذاً حتى يذيع صيتك ويعلو نجمك ويتردد اسمك في آفاق حرفيي المهنة. ثم إذا شئت، يمكنك أن تفتتح ورشة لممارسة أعمال الإنتاج الأولّي للفرم، وإذا كنت جيداً وذكياً بما يكفي، يمكنك أيضاً تحويل الورشة إلى مصنع متكامل.
وبالحديث عن الجدوى الاقتصادية لممارسة هذه الحرفة، أخبرنا الحاج جمال بتفاصيل كل مرحلة على حدة، فعندما تبدأ العمل كمساعد صنايعي مبتديء، لن يكلفك الأمر سوى بعض المجهود البدني، والقدرة على التحمل، وقليل من التركيز على تفاصيل العمل، لتتقاضى في المقابل يوميةً قد تصل إلى ثمانون جنيهاً في هذه الأيام، أما عندما تترقى إلى درجة الصنايعية فأخبرنا أن يومية الصنايعي تتراوح بين مئة وخمسين ومئتين جنيه.
وفي حال تمكنت من افتتاح ورشة لإنتاج الفرم، فعليك أن تجمع بين أعمال التركيب، وأعمال الإنتاج، وهنا يتوجب عليك أن تتحمل أول تكلفة مادية في مشوارك الحرفي، بداية من الإيجار الشهري للورشة، مروراً بتكلفة شراء أو استئجار تصاميم جاهزة للفرم -ستامبات- وهي الأعلى تكلفةً من بين جميع مراحل الإنتاج، فهي عبارة عن زخارف وأشكال فنية يقوم بنحتها بعض الفنانين التشكيليين، وتتراوح أسعار شرائها بين خمسمائة جنيه إلى ألفي جنيه حسب دقة التصميم، وخامة الستامبة، أما أسعار الإيجار فلا تتخطى حاجز المائة جنيه بأي حال، وغالباً ما يلجأ معظم أصحاب الورش إلى استئجار هذه التصاميم، إذ لا حاجة لهم  لدفع مبالغ طائلة لامتلاك تصميم واحد، ونهايةً بمرحلة الإنتاج النهائي للفرم -الصب- والتي تتطلب بعض المواد الخام مثل الجبس، والزيت، والكتان، والماء. وكما يتضح فإن هذه المواد تبدو بسيطة للغاية كما أنها متوفرة بأسعار زهيدة، فمثلا تكلفة المواد الخام اللازمة لإنتاج قبة من الجبس لا تتعدى بأي حال عشرون جنيهاً، لتباع بأسعار قد تصل إلى مائة وخمسين أومائتي جنيه، وذلك لأن عملية الخلط والصب تحتاج إلى دقة كبيرة ومهارة فائقة لتحديد المقادير وطريقة الخلط المناسبة، حيث تتوقف جودة العمل كلّه على هذه المرحلة.
واستطرد الحاج جمال قائلاً: "إن البعض قد يرى مبالغةً في هذه الأسعار، لكنها وخصوصاً في  ظل الظروف الاقتصادية الحالية بالكاد تكفي لعيش حياة بسيطة"، وأوضح أن الحالة الاجتماعية لأصحاب الحرف تتطلب ذلك، حيث أن الحرفي يأكل مباشرة من عمل يديه، وفي حال تعرضه لأي حادث طاريء يوقفه عن العمل فإنه سيضطر إلى التوقف عن الحياة، مطالباً الحكومة بضرورة سن قوانين للتأمين الصحي على أصحاب الحرف.


فوق سطح منزله بحي الهرم، والذي تحول منذ عدة سنوات إلى ورشة عمل مزدانة بالورود وشتلات الأشجار، تركنا الحاج جمال موسى صاحب الذوق الرفيع يستمع إلى صوت الست أم كلثوم، وهو يردد حكمته الفنية: " أم كلثوم للمساء، وفيروز للصباح".

تقرير - مشروع جامعي: جريدة «أهل الصنعة»
مارس ٢٠١٦

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التكنولوجيا هي مفتاح دمج المكفوفين في المجتمع - حوار مع محمد أبو طالب

أمام البوابة الرئيسية لجامعة سوهاج، التقينا الناشط الحقوقي الشاب، ومدرب الكمبيوتر بمركز نور البصيرة للمكفوفين: محمد أبو طالب، وبخطوات واثقة مثيرة للذهول، قادنا إلى مكتبه الخاص في مبنى المركز الملحق بالجامعة، مستخدمًا عصاه البيضاء الصغيرة، والتي بدت وكأنها عديمة الفائدة أمام بصيرته وقدرته الفائقة على التنبؤ بما أمامه، وهكذا أكملنا طريقنا إلى المكتب حيث ألقى السلام على بعض المارة والجلوس الذين استطاع أن يميزهم بسهولة، وبعد أن رحب بنا ترحيبًا كريمًا، بدأنا معه هذا الحوار الثري، حول التكنولوجيا والإعاقة، الموسيقى والأمل، المستقبل والحياة العملية، فإلى نص الحوار.. بدايةً، كيف تحب أن تعرف القراء بنفسك؟ اسمي محمد صابر علي أبو طالب، من مواليد محافظة سوهاج، عام ١٩٨٨، ولدت كفيفًا، في أسرة تربوية حيث كان كلا والداي معلمَّين، أنهيت تعليمي الأساسي والثانوي في مدارس النور للمكفوفين، وبالرغم من تفوقي في الثانوية العامة، بالإضافة إلى رغبتي الشديدة في دراسة الحقوق، لم أتمكن من الالتحاق بالكلية بسبب اللاوئح التي تمنع قبول المكفوفين، اتجهت بعدها إلى كلية الآداب وأنهيت دراستي بقسم الدراسات الإس