التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تقنيةُ البؤس

كنت أتساءل كثيرًا، لماذا تعتلي الكآبة وجوه هؤلاء؟ كيف تنعقد ألسنتهم فلا تستطيع تعبيرًا، ومن أين يأتي هذا السواد تحت أعينهم؟ لماذا أصبح البؤس هو السمة الوحيدة التي تضفي على صاحبها رونق الحداثة والمعاصرة؟
قد يبدو أنه من الصعب كثيرًا دراسة الحالة النفسية لجيلٍ كامل، وخصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة معطيات هذا العصر، عصر العولمة والانفتاح، فمن المعروف أن العقل البشري ما هو إلا حاسوب يتمتع بمرونة فائقة، وماذا يفعل الحاسوب غير تحليل المعطيات إلى نواتج، وتحويل المدخلات البسيطة إلى مخرجات ذات قيمة؟ إذًا تخيل معي حاسوبًا أُدخلت إليه بشكل مفاجئٍ أعدادٌ لا نهائية من الأوامر في الوقت ذاته وعلى جميع المستويات، إن حدوث الخلل هنا أمرٌ طبيعي وحتمي، لكن الوقوف أمام هذا الخلل وانتظاره ليصلح نفسه هو ما أراه غير منطقي.
من أجل ذلك سنحاول محاكاة هذا المثال على جيلٍ من الشباب تعرض لمثل تلك الظروف على عدة مستويات، لذلك، إذا كنت من مواليد التسعينات أو أوائل الألفية، ولديك شعور بالكآبة لا تعرف مصدره، فإن هذا الموضوع سيحاول الدخول إلى أعماقك، وتقصي ما وراء مشاعرك، ونأمل أيضًا أن لا تسبب محاولات كشف غموض هذا البؤس لك إزعاجًا.
لكي نستطيع إرجاء هذه المشاعر إلى أسبابها المنطقية، فلابد لنا من نظرة على الخط الزمني المصاحب لها وما طرأ عليه من أحداث ومتغيرات، لنجد أن بواكير تلك المشاعر بدأت في الظهور قبل ست سنوات مضت، بالتحديد عقب ما عُرف باسم ثورات الربيع العربي، حيث كانت تلك الثورات هي المحاولة الأولى لمحاكاة منظومة القيم والأفكار الحداثية التي عرفها العالم قبل عقود، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسربها إلى الوعي الجمعي لمستخدمي هذه الوسائل من الشباب العربي، وهكذا كانت الثورة هي التحليل المنطقي الوحيد والنتيجة الحتمية لتلك المدخلات، لذلك عاصرنا جميعًا تلك الارتفاعات غير المسبوقة في الروح المعنوية في تلك الفترة كمؤشرٍ على السلاسة التي تتم بها عملية المعالجة، إلا أن هذه الارتفاعات لم تدم طويلًا، فمع كل محطة من محطات فشل الثورات المعلومة للجميع، ومع استمرار التدفق الهائل للأفكار والمعلومات، كانت تتسع الفجوة بعنفٍ بين ما يدور في عقول هؤلاء وما يجري من حولهم على أرض الواقع، وهكذا ظل التطور التكنولجي المطرد يوميًا يعمل على تعميق تلك الفجوة من جهة، بينما كانت مظاهر الفشل الواقعي المتكررة تعمقها من الجهة الأخرى، حتى أضحت هوّة مظلمة سحيقة تكاد تبتلع جيلًا  بأكمله.
تسببت تلك الهوة في شعور لا تُعرف ماهيته، شعور بكآبة عميقة شابتها شائبة أمل، فزادتها إجلالًا ووقارًا.
ومع استمرار التطور التكنولوجي الذي أتاح فرصة الوصول إلى أقصى درجة من الانفتاح، أصبحت المنظومة الفكرية خارجة عن السيطرة تمامًا بحيث لا يمكن أبدًا ولا بأي وسيلة حصر اتجاهات هذه الأفكار وطبيعتها، وأصبحت هذه الاتجاهات هي المسؤولة عن تكوين اهتمامات الأشخاص ومفضلاتهم، يمكنك أن تتخيل عددًا لا نهائيًا من أنواع الشخصيات وأنماط التفكير مختلفة كليًا فيما بينها، وقابلة للتغير والتحول إلى أي شيء بسرعة فائقة، بنفس السرعة التي أصبحت عليها عملية تبادل المعلومات، وبالتالي أصبح مفهوم الانتماء أكثر بعدًا عن الواقع، سواءً كان انتماء الفرد لعائلته، أو لأيدوليجيته، أو لمجموعة أصدقائه المتشابهين، أو أيًا ما كان نوع ذلك الانتماء؛ لأن العصف الفكري الذي يصيب الأفراد يؤدي في النهاية إلى تفكك تلك المجموعات التي بنيت في الأصل على أساس التشابه الفكري والقيمي، إن فقدان هذا الشعور بالانتماء يمكن أن يتسبب للأفراد بذلك النوع من الكآبة العميقة، ويعزز من شعورهم بالوحدة، وذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وأن حاجته إلى الشعور بالانتماء إلى شيء أو مجموعة أو منظومة هي حاجة غرائزية متأصلة فيه، لا تقل أهمية عن حاجته إلى الطعام أو الجنس. فالعقل يدرك الأشياء والأفكار من حوله عن طريق الحواس، ومن ثم يصقلها ويعدلها أو يضيف عليها، ومن ثم يشاركها مع من حوله مرة أخرى عن طريق اللغة أو الفن أو مختلف أشكال التعبير، ومن هنا نشأت حاجة الإنسان إلى الانتماء، فإذا لم يجد الفرد نفسه محاطًا بمجموعة الأشخاص الذين يتشاركون معه مبادئه وقيمه، فمع من يستطيع أن يشارك أفكاره ويعبّر عن نفسه؟
كانت تلك هي المهمة الجديدة لمواقع التواصل الاجتماعي، إتاحة فرصة البحث عن أشخاص يمكن أن تتشابه قيهمم ومبادئهم، وخلق بيئة مناسبة للتعبير عن الذات، لكن الأمر لم يكن على تلك البساطة، فمع زيادة أعداد المستخدمين واستمرار التدفق المعلوماتي تصبح مهمة العثور على تلك البيئة المناسبة أصعب فأصعب، من أجل ذلك احتاج الأفراد إلى بذل مجهودات مضاعفة للتعبير عن أنفسهم، وجذب انتباه الآخرين لهم، وقد يصعب عليك تصديق أن محاولات جذب الانتباه تلك قد تصل في عنفوانها حد محاولة الانتحار علنًا وعلى الملأ باستخدام تقنية البث المباشر، الأمر الذي أجبر شركات كبرى مثل فيسبوك على تفعيل تقنية مخصصة للإبلاغ عن أي حالات انتحار مباشر.
أمرٌ آخر كان من شأنه أن يجعل البؤس واحدًا من المكونات الأصيلة لنفسية الأفراد حديثي السن في القرن الحادي والعشرين، وهو الفشل الذريع في تحقيق إنجازات على مستوى الحياة العملية، والحقيقة أن هذا الأمر ليس جديدًا كليًا، فلا يخفى على أحد من هواة مطالعة التاريخ ما تسببت فيه الثورات الصناعية على مر الزمان من بؤس للمجتمعات والأفراد، ومع ذلك فإن ما تشهده مجتمعات الشباب المعاصرة اليوم من هيستيريا تطور مجالات الصناعة والإنتاج، وما طرأ على تلك المفاهيم من متغيرات لتواكب العولمة والثورات الرقمية والتكنولوجية، لهو عبءٌ غير مسبوق، يلقي بنفسه على عاتق جيل بأكمله.
وإذا ألقينا نظرة على أسواق العمل في الأعوام الأخيرة، نجد أن التغيرات تطرأ عليها بمعدلٍ نصف سنوي تقريبًا، حيث يجب على الفرد أن يطور قائمة مهاراته بالكامل كل خمسة أعوام، إذا أراد أن يحصل على فرصة عمل جيدة – طبقًا لإحدىإحصائيات المؤتمر الاقتصادي العالمي في دافوس 2017 – مما يضيف طرفًا جديدًا للمعضلة الأزلية بين الخبرة وفرص العمل، فلم يعد السؤال الوحيد المطروح هو كم عامًا تمتلك من الخبرة في مجال العمل؟ بل ما الجديد الذي تستطيع أن تفعله؟ هكذا يواجه أفراد هذا الجيل فشلًا قاتلًا في ملاحقة ذلك العالم الجديد ومواكبة ما يطرأ عليه من متغيرات بنفس السرعة، مما يدفع بهم دفعًا نحو الكآبة والشعور بالعجز.

أود أن أقدم اعتذارًا شديدًا إن كان هذا الموضوع قد زاد من كآبتك وحزنك، وأود أن أؤكد أيضًا أن هذا ليس الغرض منه على الإطلاق، فإن كانت ضخامة المشكلة تجعلنا عاجزين عن إيجاد حلول جذرية، فلابد لنا من محاولة كشف الغموض عنها ولو جزئيًا، إن منطَقة الحزن واستقراء أسبابه خطوة جيدة في طريق التخلص منه ولو على صعيدٍ فردي على الأقل، حتى وإن كنت غير متأكدًا من رغبتك في التخلص منه.
نُشر على منصة «ساسة بوست»
٢٧ مارس ٢٠١٧

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التكنولوجيا هي مفتاح دمج المكفوفين في المجتمع - حوار مع محمد أبو طالب

أمام البوابة الرئيسية لجامعة سوهاج، التقينا الناشط الحقوقي الشاب، ومدرب الكمبيوتر بمركز نور البصيرة للمكفوفين: محمد أبو طالب، وبخطوات واثقة مثيرة للذهول، قادنا إلى مكتبه الخاص في مبنى المركز الملحق بالجامعة، مستخدمًا عصاه البيضاء الصغيرة، والتي بدت وكأنها عديمة الفائدة أمام بصيرته وقدرته الفائقة على التنبؤ بما أمامه، وهكذا أكملنا طريقنا إلى المكتب حيث ألقى السلام على بعض المارة والجلوس الذين استطاع أن يميزهم بسهولة، وبعد أن رحب بنا ترحيبًا كريمًا، بدأنا معه هذا الحوار الثري، حول التكنولوجيا والإعاقة، الموسيقى والأمل، المستقبل والحياة العملية، فإلى نص الحوار.. بدايةً، كيف تحب أن تعرف القراء بنفسك؟ اسمي محمد صابر علي أبو طالب، من مواليد محافظة سوهاج، عام ١٩٨٨، ولدت كفيفًا، في أسرة تربوية حيث كان كلا والداي معلمَّين، أنهيت تعليمي الأساسي والثانوي في مدارس النور للمكفوفين، وبالرغم من تفوقي في الثانوية العامة، بالإضافة إلى رغبتي الشديدة في دراسة الحقوق، لم أتمكن من الالتحاق بالكلية بسبب اللاوئح التي تمنع قبول المكفوفين، اتجهت بعدها إلى كلية الآداب وأنهيت دراستي بقسم الدراسات الإس