التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ثقافةٌ.. من نوع آخر

"شوف يابني، إذا مكنتش هتعمل اللي بتعمله صح، يبقى بلاش منه أكرملك، الحياة أقصر من أنك تضيعها في حاجة نص نص." قالها بحزم، ولما استشعر أنني لم أدرك المغزى تماماً استطرد موضحا وهو يخلط بيديه معجون الجبس: "غاية الحياة ليست في جني المكاسب والتطلع للمزيد، إذ المكاسب هي مجرد وسيلة للمساعدة على الاستمرار، إنما الغاية الوحيدة هي الكمال، وطالما أنت على قيد الحياة، فلتسع للوصول إلى غايتك"، أدهشني كثيراً عمق إدراكه، فتسائلت مبتسماً "أنت بتقرأ في الفلسفة ولا إيه؟"، وعندما انفجر الرجل في الضحك، أدركت مدى القصور الذي يعتري رؤيتي. ففي الحقيقة لم يحتاج الحاج جمال حتى يدرك غاية وجوده إلى مطالعة مخطوطات أفلاطون، أو إلى دراسة فرضيات برتنارد راسل، أو إلى مراجعة إثباتات رامانوجان عن مفهوم اللانهائية، فقد وجد الرجل فلسفة حياته بالفعل -و بقدر ما يبدو الأمر بسيطاً- في قعر وعاء خلط الجبس خاصته.

إن غياب تلك الحقيقة عن أذهان الكثيرين من أبناء الطبقة "المثقفة" كما يطلقون على أنفسهم من منطلق شوفيني فج، يؤدي بنا الآن إلى سباق تسلح ثقافي مجنون، فارغُ من أهدافه بقدر هيستيريته. يثقلون ظهورهم بأسفار معلوماتية وموسوعية، ليس لأي شيء سوى لإرضاء شوفينيتهم تلك أمام بعضهم البعض، و أمام طبقةٍ أقل "ثقافة" كما يدّعون، و أكثر "اتساقاً مع ذواتهم" كما أزعم.

هذه وبكل تأكيد، ليست دعوةً لتعميم الجهل ولا رفضاً للقراءة والاطلاع، إنما هي محاولة للتخفيف من وطأة النظرة المتعالية على هؤلاء البسطاء من أصحاب الحرف والأشغال وعموم الأعمال التي لم تتطلب في إحدى مراحلها مهارة التحصيل المعلوماتي النظري، فهؤلاء قد تمكنوا بالفعل من تحصيل النوع والقدر المناسبين من ثقافتهم الخاصة، بما يكفي ليجعلهم بارزين ومتميزين في أوساطهم، وذلك من خلال الاحتكاك المباشر والمستمر بالحياة الواقعية العملية.

في الوقت ذاته هي دعوة مخلصةٌ لأصدقاء الكتب ورواد الموسوعات، لوقف ذلك التسابق الفارغ، وأخذ استراحة قصيرة، تتيح لعقولنا فرصة التفكير في مدى الاستفادة الحقيقية، وإمكانية التطوير والاتساق الفعلي مع هذه الحصيلة الثقافية، ولنحوّل وجهتنا بصدق عن جني المكاسب الفارغة، إلى تحقيق أقصى استفادة منها في سعينا نحو الكمال، حتى في العلم وفي الثقافة.


مقال - مشروع جامعي: جريدة «أهل الصنعة»
مارس ٢٠١٦

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التكنولوجيا هي مفتاح دمج المكفوفين في المجتمع - حوار مع محمد أبو طالب

أمام البوابة الرئيسية لجامعة سوهاج، التقينا الناشط الحقوقي الشاب، ومدرب الكمبيوتر بمركز نور البصيرة للمكفوفين: محمد أبو طالب، وبخطوات واثقة مثيرة للذهول، قادنا إلى مكتبه الخاص في مبنى المركز الملحق بالجامعة، مستخدمًا عصاه البيضاء الصغيرة، والتي بدت وكأنها عديمة الفائدة أمام بصيرته وقدرته الفائقة على التنبؤ بما أمامه، وهكذا أكملنا طريقنا إلى المكتب حيث ألقى السلام على بعض المارة والجلوس الذين استطاع أن يميزهم بسهولة، وبعد أن رحب بنا ترحيبًا كريمًا، بدأنا معه هذا الحوار الثري، حول التكنولوجيا والإعاقة، الموسيقى والأمل، المستقبل والحياة العملية، فإلى نص الحوار.. بدايةً، كيف تحب أن تعرف القراء بنفسك؟ اسمي محمد صابر علي أبو طالب، من مواليد محافظة سوهاج، عام ١٩٨٨، ولدت كفيفًا، في أسرة تربوية حيث كان كلا والداي معلمَّين، أنهيت تعليمي الأساسي والثانوي في مدارس النور للمكفوفين، وبالرغم من تفوقي في الثانوية العامة، بالإضافة إلى رغبتي الشديدة في دراسة الحقوق، لم أتمكن من الالتحاق بالكلية بسبب اللاوئح التي تمنع قبول المكفوفين، اتجهت بعدها إلى كلية الآداب وأنهيت دراستي بقسم الدراسات الإس